أدباء أمام المحاكم - بقلم علي العريان

تمهيد:
هل يجب تحصين الأدب من المساءلة القانونية؟ لإجابة مثل هذا السؤال لا بد أولا من تعريف الأدب وبيان وظائفه وخصائصه، وبما أن الأدب نوع من أنواع الفنون الجميلة، فلا بد أيضا من تعريف الفن، وذلك لكي نحدد نطاق السؤال ودائرته الجامعة المانعة، ومن ثم نستطيع أن نقدم إجابة له، في هذا المقال سنعرض لذلك إضافة إلى تبيان بعض وسائل قمع الأدب وقضايا واقعية لذلك، ثم لبعض الكتب التي تحدثت عن القضايا الأدبية التي عرضت في سوح القضاء وأودت بأصحابها إلى المتاعب، وأخيرا الحجج التي يتمسك بها كلا الفريقين المعارض للمنع والمؤيد له.

الفن
الفن مصطلح واسع وشامل والعلاقة بينه وبين الأدب عموم وخصوص مطلق، فالأدب أخص من الفن وأضيق دائرة منه، فكل ما هو أدب هو فن ولكن ليس كل ما هو فن يعد أدبا، وبحسب تصنيف إيتيان سوريو للفنون فإن الأدب هو أحد أنواع الفنون السبعة في عرض النحت والرسم والتصوير والموسيقى والرقص التعبيري والسينما، ولا شك بأن العنصر الجمالي والوجداني هو الثابت الدائم في أي عمل فني.
وأما فيما يتعلق بتعريف الفن وبيان ماهيته وطبيعته، فقد اختلف الفلاسفة والمختصون اختلافا شديدا في ذلك، فيلاحظ بأن التعريفات التي صاغوها وقدموها تأتي غالبا متأثرة بالأيدولوجيا التي يرتؤونها أو يتبنونها، فهنالك من عرف الفن بأنه "تعبير عن الشخصية عبر الأحاسيس والمشاعر"، وقيل بأنه "انعكاس للحياة الاجتماعية وحركة الإنتاج والآلة"، وآخر عرفه بأنه "تنفيس عن الرغبات المكبوتة في اللاشعور وعملية إعلاء وتسام بالغريزة الجنسية"[1].

الأدب
وطالما أن الأدب ضرب من ضروب الفن ونوع من أنواعه، فكل ما قيل في الفن يقال في الأدب، إلا أن ما يميز الأدب عن سائر الفنون هو أن أداته اللغة، ومن الأمثلة عليه الشعر والرواية، وقد قيل في تعريفه بأنه "حدس" و"خلق وابتكار" وأنه "كل ما يثير فينا بفضل خصائصه إحساسات جمالية أو انفعالات عاطفية أو هما معا"[2].
وينطوي الأدب على عناصر أربعة أسهب أساتذة النقد الأدبي في شرحها ومناقشتها وهي العاطفة والخيال والمعنى أو المضمون والأسلوب أو الصياغة، ويمكن من خلال هذه العناصر مجتمعة أو متفرقة، تمييز ما يمكن اعتباره عملا أدبيا من غيره.
ولا شك بأن الفكرة ليست مناط العمل الأدبي، فليس مطلوبا من الأديب أن تكون الفكرة التي يتناولها جديدة، فقد يأتي بفكرة بالية أو مألوفة فيلبسها لباسا جديدا ويضفي عليها حدسا وابتكارا لينشئها في خلق جديد فتظهر برونق متجدد غير مسبوق، وبهذا يميز الأدب الجيد من الرديء لا بالفكرة، فكم من فكرة لم تصل إلى الملأ من خلال المؤلفات الفلسفية لكنها شغفت قلوب الجماهير من خلال الأدب والمسرح، فانظر كيف أثر جون بول سارتر مثلا من خلال مسرحياته فأوصل الأفكار الوجودية إلى شباب أوربا وقارن ذلك بوصولها من خلال مؤلفاته الفكرية كـ(الوجود والعدم).
وأما وظيفة الفن وبتعبها وظيفة الأدب فيمكننا أن نلحظ وجود مذهبين أساسيين، الأول يرى أن الفن أو الأدب هو هدف في حد ذاته لا يراد لغيره، وهو ما يعرف بمذهب (الفن للفن) أو (عبثية الفن)، بينما يذهب أرباب المذهب المقابل إلى أن للفن والأدب رسالة اجتماعية خطيرة ولا يمكن عزلهما أو تجريدهما عن التأثير في المجتمع والتغيير فيه وهو ما يعرف بمذهب (اجتماعية الفن) أو (الفن للمجتمع)، وعن هذا المذهب يقول الأستاذ أحمد الشايب في (أصول النقد الأدبي) كما ينقل عنه د.شلتاغ عبود: «.. والأدب فوق هذا تدين له العقائد الدينية والنهضات السياسية والاجتماعية لأنه لسانها الذي يسبقها وروحها التي تنفذ إلى أعماق القلوب قبل أن تستجيب هذه القلوب إلى مقولاتها في السياسة والاجتماع»[3].
ويرى بعض الباحثين – بحق – أن الغلو في أي من المذهبين يجافي الصواب فكون أن للأدب معنى في ذاته هو غاية بما هو هو لا يستلزم بالضرورة أن لا تكون له وظيفة اجتماعية أو تأثير في الواقع الاجتماعي والعكس صحيح.

قمع الأدب بمفهومه الواسع
وسائل عديدة اتبعت واستعملت في شتى دول العالم لقمع الأدباء والأدب ومحاكمتهم على منتوجهم الأدبي، ولا شك بأن المساءلة القانونية والقضائية ليست الوسيلة الوحيدة التي وظفت لتحقيق ذلك فيمكننا أن نلاحظ ذلك أيضا بأسلوب المساءلة السياسية عن طريق الاستجوابات والأسئلة البرلمانية والحملات الدعائية، و المنع الإداري والإجراءات الحكومية والامتناع عن فسح الأعمال الأدبية ومصادرتها وسحبها من الأسواق وفرض قيود عليها وإجبار كاتبها - إجبارا صريحا أو ضمنيا – على شطب بعض محتواها، ثم نجد أسلوب القمع الديني وفتاوى التضليل والتكفير والحكم بالردة على الأدباء والمفكرين وتحريم قراءة كتبهم أو الاطلاع على أعمالهم الأدبية وبيعها وشرائها وتداولها وحيازتها، وكذلك ينتهج آخرون أسلوب الجريمة والإيذاء الجسدي بحق الأدباء من خلال تهديدهم وقتلهم والتنكيل بهم، وأخيرا انتهاج وسيلة الإقصاء الاجتماعي والتي لا تقتصر على الأديب وإنما تمتد إلى أبنائه وزوجه وعائلته، والأمثلة على هذا القمع كثيرة والصور متكررة في التاريخ القديم والحديث ابتداء من سم سقراط ومرورا بقتل السهروردي وليس انتهاء بملاحقة نصر أبي زيد مثلا وتفريقه عن زوجته وتهجيره ومنعه من دخول البلدان.



بل لا زال مشهد استجواب وزير الإعلام الكويتي الراحل الشيخ سعود الناصر الصباح عام 1998 عالقا في الذاكرة، وذلك حين استجوه نواب إسلاميون بسبب سماح وزارة الإعلام ببيع بعض الكتب في معرض الكتاب الدولي المقام في الكويت، وذلك كرواية (سقوط الإمام) لنوال السعداوي، و(الخبز الحافي) لمحمد شكري، و(نقد الخطاب الديني) لنصر أبي زيد، ولا زالت آثار هذا الاستجواب قائمة حتى اليوم تتجسد في هاجس وخشية دائمة من زمجرة المحافظين في وجه أي مسؤول سياسي بسبب المنتج الأدبي والدرامي والإعلامي فيترجم ذلك بتضييق الخناق على الأدب والفكر والفن وتغليب كفة المنع على الإباحة.
ومما جاء في صحيفة الاستجواب البرلماني المذكور أن بعض الكتب المباعة في معرض الكتاب الكويتي: «تحمل في صفحاتها طعنا صريحا للذات الإلهية، وتشكيكا مقصودا بالدين الإسلامي الحنيف، وطعنا واضحا بأصول الإيمان بالملائكة والأنبياء واليوم الآخر، فضلا عن مساس هذه الكتب بالآداب والأخلاق والقيم الإسلامية التي جبل عليها المجتمع الكويتي المسلم، وهو ما يخالف جملة وتفصيلا النصوص الدستورية والقانونية التي استقرت عليها تشريعات الدولة بهذا الشأن، مما عرض ويعرض مقومات المجتمع الكويتي إلى خطر جسيم»[4] ثم تسوق صحيفة الاستجواب أمثلة لما تعنيه من ذلك فتقتبس من رواية (سقوط الإمام) العبارة التالية "يداه تربت على وجهي ثم تهبط لتربت على صدري وبطني، رجفة غامضة تهزني وقشعريرة، يهمس صوت ناعم: لا تخافي أنا الله وسوف تلدين المسيح" ويعلق النواب المستجوبون على ذلك قائلين "أليس في هذا نيلا واستهزاء بالذات الإلهية وتعريضا بها يوجب غضب الله الرب سبحانه، ويعجل بنزول عذابه، ما لم يتصد المسلمون لمثل هذا الطعن الواضح؟ أليس في هذا النيل والاستهزاء بالذات الإلهية؟ أليس في ذلك جرحا عميقا وغائرا في وجدان الإنسان المسلم الذي ينزه ربه من كل نقص؟"[5].



ومن الأمثلة الأخرى الشائعة في العالم العربي والقضايا الدارجة ما ثار حول رواية (أولاد حارتنا) للأديب نجيب محفوظ، والتي اتهمت بالإساءة إلى الأنبياء والرسل والطعن في الذات الإلهية، فصدر تقريران من مجمع البحوث الإسلامية تفصل بينهما فترة عشرين عاما لكنهما أجمعا على إدانتها والتوصية بحظرها، وفعلا فقد طبعت الرواية طبعتها الأولى في دار الآداب في بيروت عام 1962 ولكنها لم تطبع في مصر حتى عام 2006 حين صدرت عن دار الشروق، إذ اتفق محفوظ مع ممثل عبدالناصر المدعو حسن صبري الخولي على عدم نشرها حتى يوافق الأزهر على ذلك.
وعلى الرغم من أن الرواية كتبها محفوظ بعد أن انقطع عن الكتابة لمدة 5 سنوات، و حينما رأى انحراف سلوكيات ثورة يوليو عن شعاراتها ومبادئها فجاءت نقدا رمزيا للسلطة الناصرية مخالفا لأسلوبه الواقعي، وعلى الرغم من أنها تحمل رمزيات عميقة كتفسير بعض المؤولين لها بأنها تسعى إلى المصالحة بين العلم والدين، إلا أن المتشددين لم يحملوها إلا على ما بادرت أذهانهم إليه من تفسير فأنكروا سائر الأوجه الأخرى والطبيعة الرمزية للعمل الأدبي ففعلوا ما فعلوا والذي كان أرذله فتوى المدعو عمر عبدالرحمن بردة نجيب محفوظ وهدر دمه، مما أدى لاحقا إلى أن قام أحد الغوغاء بترصد محفوظ حين خروجه من منزله متوجها إلى ندوته الأسبوعية فطعنه بسكين في رقبته عام 1994 مما كان له الأثر البالغ على صحة محفوظ وقدرته على الإمساك بقلمه ليكتب من جديد رغم أنه قد نجا من هذه الجريمة.



كتب تضم عناوين الكتب الممنوعة:
يقول غيورغ كريستوف ليشتنبرغ «إن الكتاب الأكثر استحقاقا للمنع في العالم هو الكتاب الذي يضم عناوين الكتب الممنوعة»، وانطلاقا من مقولته هذه فإننا نشير إلى كتابين من هذا القبيل هما الأكثر استحقاقا للمنع والأكثر استحقاقا للقراءة، يتضمنان قوائم بالكتب الممنوعة والمثيرة والتي أودت بكتابها إلى المهالك والمتاعب، وهما:

1- أدباء أمام المحاكم: الأدب الممنوع عبر أربعة قرون
«في (ألمانيا) أيضا كان الجنس والدين والسياسة هو الثالوث الذي تسبب في رفع قضايا على أدباء من وزن (غونترغراس) و(كلاوس مان) و(كورت توخولسكي) و(فرانك فيديكند)، فبالخيال الجموح وبالرغبة الحرة في نقد المسلمات المقدسة وهز ثوابت الثقافة المحافظة ضيقة الأفق ومهاجمة روح الخنوع السياسي يصطدم الأدباء بين الحين والآخر بنصوص القانون ومؤسسات القضاء، وهذا الكتاب يجمع مقالات عن أشهر القضايا التي شهدها تاريخ الأدب الألماني منذ القرن السابع عشر مرورا بجمهورية (فايمر) وحقبة النازية وانتهاء بألمانيا المقسمة إلى شرق اشتراكي وغرب رأسمالي»[6].



أعد هذا الكتب وجمع مقالاته الباحث الألماني يورغ – ديتر كوغل الذي درس الفلسفة والتاريخ والأدب الجرماني في جامعة كولونيا، وقد ترجمه الأساتذة سمير جريس ومحمد عودة ود.عدنان عباس، وذلك بمساهمة برنامج "ترجم" التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم.

2- الحرية وأخواتها
وفي حين أن الكتاب السابق يروي حكاية صراع المنع والحريات في ألمانيا على مدى أربعة قرون، نجد كتاب (الحرية وأخواتها) لمؤلفه الشاعر والصحفي عيد عبدالحليم يتناول أهم قضايا قمع الأدب والفكر في مصر خلال القرن العشرين، والتي وصل كثير منها إلى سوح المحاكم والقضاء، ومنها قضية طه حسين عن بحثه في الشعر الجاهلي، وكتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبدالرزاق، وكتاب (أحوال المرأة في الإسلام) لمنصور فهمي، و (من هنا نبدأ) لخالد محمد خالد، و (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، و (خريف الغضب) لمحمد حسنين هيكل، ومسرحية (الحسين ثائرا) و (الحسين شهيدا) لعبدالرحمن الشرقاوي، وقضية التفريق بين نصر حامد أبي زيد وزوجته د.ابتهال يونس بسبب مجموعة من كتبه وبحوثه، وكتاب (رب الزمان) لسيد القمني، وديوان (هوامش على دفتر النكسة) لنزار قباني وغيرها من القضايا، كما يتحدث المؤلف في فصل بعنوان (الوطنية المصادرة) عن ديوان (وطنيتي) للشيخ علي الغاياتي الذي كتب مقدمته الزعيم الوطني محمد فريد والذي سجن بسببها لمدة ستة أشهر بينما هرب الغاياتي إلى أوربا نظر لأن الديوان أثار حفيظة الخديوي والانجليز لما تضمنه من قصائد وطنية[7].

نماذج من الملاحقة القانونية للأدباء
قبل العودة إلى سؤال المقال، وعما لو كان من الواجب تحصين الأدب من المساءلة القانونية والقضائية، نستعرض فيما يلي نماذج من الأعمال الأدبية تمت إحالتها إلى المحاكم أو اتخذت بشأنها إجراءات قضائية أو قانونية، وهي كالتالي:



1- رواية (مسافة في عقل رجل)
صدرت هذه الرواية عام 1988 لكاتبها علاء حامد، فطبعت ونشرت دونما اعتراض وبيعت في الأسواق لحوالي السنتين إلى أن كتب أحدهم في عموده في جريدة الأهرم مقالا بعنوان (سلمان رشدي آخر في مصر)، متهما الرواية بالتطاول على الأديان والسخرية بالأنبياء والرسل، فسارعت مباحث المصنفات الأدبية في مصر إلى مصادرتها وسحبها من الأسواق، وقامت بإلقاء القبض على كاتبها وطابعها، فأمرت النيابة العامة بحبسهما حبسا احتياطيا استمر لمدة ثلاثة أشهر حتى أخلي سبيل الكاتب بكفالة 2000 جنيه، لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد حيث أوقف الكاتب عن عمله في مصلحة الضرائب وأحيل إلى النيابة الإدارية التي أمرت بفصله عن العمل، وصدر الحكم لاحقا من محكمة أمن الدولة بحبسه 8 سنوات وتغريمه 1500 جنيه، وكذلك صدر مثل الحكم بحق الطابع، جدير بالذكر أن د.فرج فودة – والذي قتل لاحقا برصاص المتطرفين – كان من الشهود في هذه القضية الذين شهدوا لصالح كاتب الرواية وكذلك شهدت نوال السعداوي.
ومن سوء طالع علاء حامد أن صدرت له رواية أخرى بعنوان (الفراش) فحوكم أيضا بسببها وصدر عليه حكم بالحبس لمدة سنة مما أدى به لأن يقطع شرايين يده احتجاجا على هذا الحكم.

2- رواية (عزازيل)
كتب د.يوسف زيدان روايته الرائعة (عزازيل) والتي صدرت عن دار الشروق عام 2008 وتدور أحداثها في القرن الخامس الميلادي ما بين صعيد مصر والإسكندرية وشمال سوريا، بعدما تبنت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية، وعرض من خلال الرواية الاضطهاد المسيحي للوثنيين والذي بلغ ذروته بالتصوير حين سحلت هيباتيا الفيلسوفة والرياضية والفلكية الوثنية الأفلوطينية في شوارع الإسكندرية على يد الغوغاء من المسيحيين، كما تتطرق الرواية إلى الانشقاقات الفكرية والمذهبية في الكنيسة وظهور التيارات "الهرطقية".
أثارت الرواية استياء الكنيسة الأرثوذوكسية في مصر فأصدر الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بيانا اتهم فيه مؤلف الرواية بالإساءة إلى المسيحية، كما تقدم نجيب جبرائيل محامي الكنيسة الأرثوذوكسية ورئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان ببلاغ للنيابة العامة ضد يوسف زيدان.






3- عمارة يعقوبيان
تعتبر رواية (عمارة يعقوبيان) لكاتبها علاء الأسواني من أدب المكان الذي تدور أحداثه في مكان محدد، ولم تبدأ المتاعب مع مؤلف هذه الرواية إلا بعدما مثلت وأنتجت كفلم، فرفع بعض سكان العمارة دعاوى قضائية ضده، وقد زعم أحدهم أنه المقصود بشخصية المثلي جنسيا خصوصا وأن الاسم الأول متماثل مع اسم شخصية الرواية، فطلب من المحكمة أن تقضي بالتعويض الأدبي ضد الأسواني مقداره 10 مليون جنيه، وقد حكمت المحكمة ضد الكاتب لاحقا بتعويض مقداره 25 ألف جنيه.
وعن ذلك يقول علاء الأسواني كاتب الرواية في مقال له بعنوان (حرية الإبداع وأخواتها): «إن محاكمة الأديب على خياله وإخضاع الأعمال الأدبية إلى تقارير الشرطة ومحاضر النيابة علامة على التخلف السياسي والحضاري، والمستقر في الدول الديمقراطية أن محاكمة العمل الأدبي يجب أن تتم بواسطة نقاد الأدب وليس ضباط البوليس ووكلاء النيابة»[8].



4- يوسفينه موتسنباخر
دعونا نعرض هذا النموذج من كتاب (أدباء أمام المحاكم) وهي رواية تحكي قصة عاهرة من فيننا ابتدأت مهنة الدعارة في عمر الست سنوات، تصور الرواية أوجها متعددة للشذوذ الجنسي كنكاح المحارم والمازوخية وجنس الأطفال، كما تعرض تحرش مدرسي التربية الدينية في المدرسة بيوسفينه، وقد شاع أن الرواية للكاتب فيلكس سالتن، إلا أنه رفض طوال حياته أن يعترف بأنه هو من كتبها كما لم يقم بنفي ذلك حينما كان يسأل عنها، وبعد وفاته رفع ورثته دعوى قضائية طالبوا من خلالها بنصيبهم من أرباح بيع الرواية إلا أن المحكمة رفضت دعواهم لعدم وجود دليل يثبت أو ينفي أن والدهم هو كاتب الرواية.
خاضت الرواية حربا ضروسا مع المصلحة الاتحادية والمحاكم في سبيل فسحها والتصريح ببيعها، وقد نشرت لأول مرة مطلع القرن العشرين، وفي حيثيات أحكام المحاكم ومذكرات الدفاع والمرافعات المتعلقة بالرواية يمكننا قراءة إشكاليات تشريعية وأخلاقية شيقة من قبيل ما لو كانت الإباحية يمكن أن تعتبر أدبا، وما لو كانت عناصر الأدب كالخيال مثلا متحققة ومتوافرة في الرواية.

ختاما: هل يجب أن يحصن الأدب من المساءلة القانونية؟
في الاتجاه الأول والذي يدعو إلى تحصين الأدب من المساءلة القانونية يمكن الاحتجاج بأن الأدب عمل إبداعي بطبيعة وأن الإبداع والفن لا حدود لهما وكلما تم تقييدهما كلما كبح خيال الفنان وعرقلت عجلة الحضارة من التقدم، كما يمكن الاحتجاج بأن الأدب بطبيعته رمزي أو ينطوي على رمزية أو سريالية لا يجوز تفسريها وتأويلها بالأدوات التي نفسر بها النص العادي واللغة المألوفة، علاوة على أنه يوغل في استعمال اللغة المجازية والصور الخيالية والتي يحتمل تأويلها وجوها كثيرة وغامضة ومبهمة أحيانا، ومن الحجج التي تساق في هذا الاتجاه أيضا أن الأدب يتضمن نطقا على لسان شخصيات العمل الأدبي، فكاتب الرواية يخلق عالما من الشخصيات التي لا ينطق كل منها بما يعتقده الكاتب ويقصده، بل إن بعضها قد يروي ما يخالف قناعة الكاتب، وربما عرض الكاتب ذلك لإيصال رسالة معاكسة إلى القارئ، وأيضا مما يقال في هذا الصدد أن الأدب عمل ذوقي لا يمكن إخضاعه للضوابط والقواعد القانونية والمنطقية والأخلاقية، فلا معيار يحكم الذوق، كما قد يدافع عن هذا الاتجاه من منطلق مذهب (الأدب للادب) أو (عبثية الأدب) حيث يقال بأن الأدب والفن هدف في حد ذاته لا تطلب غاية وراءه فلا يتمتع المجتمع بشرعية لمساءلته ومحاكمته إذ أنه حالة فردانية محضة، وأخيرا قد يتمسك أرباب هذا الاتجاه بحرية التعبير لتدعيم موقفهم.
أما في الاتجاه الآخر والذي يناصر المنع ووضع الضوابط والقيود فيمكن الاحتجاج بمذهب (اجتماعية الأدب) حيث أن للأدب رسالة خطيرة ونافذة تحدث تغييرا في المجتمعات على جميع الأصعدة كالتربوي والاجتماعي والسياسي والعقائدي، بل إن من شأن الأدب والفن أن يسحر القلوب والعواطف والمشاعر فيقلب الحق باطلا والباطل حقا، كما أن الفن قد ينطوي على جرائم تمس الآخرين كالتحريض على القتل والسب والقذف، و يمكننا تلمس ذلك جليا مثلا في أدب الجماعات المسلحة الإرهابية والمتطرفة حيث تحرص على ترويج الأناشيد والقصائد والأعمال الأدبية التي تعبئ المراهقين والغوغاء للانخراط في صفوفها، كذلك يمكن أن يحتج أنصار مذهب التقييد والمنع بأنهم كآباء وأمهات وتربويين لا يريدون لأبنائهم أن يطلعوا على أفكار منافية للقيم والأخلاقيات والآداب العامة، ويمكنهم أن يتمسكوا أيضا بأن حرية التعبير ليست مطلقة وأن أعتى الدول ديمقراطية لا زالت تفرض قيودا عليها، فتقييدها غير مرفوض من حيث الأصل وإنما النقاش في معايير التقييد والمنع وضوابطها، كذلك يحتج أصحاب هذا الاتجاه بضبابية تعريف الأدب والفن وانعدام وجود معيار دقيق جامع مانع للتفريق بين ما هو أدب مما لا يعد كذلك بما سيجر كثيرا من الأعمال اللغوية إلى نطاق الحصانة المزعومة، فهل من الممكن مثلا أن نعتبر القصائد المباشرة التي لا تنطوي على خيال ولا إبداع ولا حس أدبا، و هل من الممكن أن نحصن كتابا عاديا مباشرا بمجرد أن نضع على غلافه كلمة (رواية) فقط، وأخيرا يرد أصحاب هذا الاتجاه على الحجج النابعة من فلسفة اللغة بأنها حجج سفسطية إذ أن العمل اللغوي وإن تعددت معانيه واحتمل كثيرا من التفسيرات إلا أن ثمة معنى ثابتا يقبع وراءه لا يمكن أن نماري فيه وإلا لانتفت اللغة وسقطت ولم يعد لها وجود.

المراجع والمصادر:
  1. شلتاغ عبود شراد "مدخل إلى النقد الأدبي الحديث"، دار مجدلاوي للنشر، عمان، الطبعة الأولى، سنة النشر 1998.
  2. يورغ – ديتر كوغل "أدباء أمام المحاكم"، ترجمة وتحقيق سمير جريس ومحمد عودة وعدنان عباس، شرق غرب للنشر بالاشتراك مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، سنة النشر 2010
  3. عيد عبدالحليم "الحرية وأخواتها"، مكتبة مدبولي، القاهرة، سنة النشر 2008.
  4. محمد اليوسفي "الكويت من التحرير إلى الاختلال"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت)، ودار الفارس للنشر والتوزيع (الأردن)، الطبعة الثانية، سنة النشر 2014.
  5. المصري اليوم "الأنبا بيشوي: عزازيل تدمر المسيحية..الخ"، تاريخ النشر 25-7-2008.
  6. الموقع الالكتروني (الأقباط متحدون) "القمص عبدالمسيح بسيط يكتب: زيدان تفوق على الإرهابيين والمتطرفين ..الخ"، متاح عبر الرابط www.copts-united.com
  7. علاء الأسواني "حرية الإبداع وأخواتها"، الموقع الالكتروني بوابة الشروق www.shorouknews.com
  8. مجلة الهلال، عدد خاص عن نجيب محفوظ، نشر عام 1970، كتب عنه واقتبس صورا من صفحاته حساب @abdullah_1395 على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر).



[1]  مدخل إلى النقد الأدبي الحديث: د.شلتاغ عبود شراد، الطبعة الأولى 1998.
[2]  مدخل إلى النقد الأدبي الحديث: د.شلتاغ عبود شراد، الطبعة الأولى 1998.
[3] مدخل إلى النقد الأدبي الحديث: د.شلتاغ عبود شراد، الطبعة الأولى 1998، ص20.
[4] الكويت من التحرير إلى الاختلال: محمد اليوسفي، الطبعة الثانية، ص55.
[5] الكويت من التحرير إلى الاختلال: محمد اليوسفي، الطبعة الثانية، ص55.
[6] نبذة كتبها الناشر على ظهر غلاف الطبعة العربية للكتاب.
[7] في "الحرية وأخواتها" عبدالحليم يفتح ملف المصادرة: البوابة. نشر بتاريخ 9 تموز 2008. متاح على الموقع الالكتروني albawaba.com
[8] حرية الإبداع وأخواتها: علاء الأسواني. الشروق. نشر بتاريخ 13 أبريل 2009. على الموقع shorouknews.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكم التصوير في القانون الكويتي – بقلم علي العريان

هل يجوز الحجز على بيتك؟

العواقب القانونية للإلحاد والردة .. بقلم المحامي علي العريان