فلنرجع البصر كرتين .. في حرية إهانة المقدسات - مجرد دعوة للتأمل - بقلم علي العريان



 

كلاكيت للمرة الألف .. يسب نبي الإسلام .. ردة فعل من قبل المسلمين بالحرق و القتل والتفجير والتكسير .. يسب شخص من الشخصيات المقدسة المذهبية .. ردة فعل من قبل أبناء المذهب الآخر بالسجن و الإقصاء وسحب الجنسية و منع الكتابات و ربما القتل و التهجير ..

تفجر دار نشر أو صحافة .. يقتل حفنة من الأشخاص .. يتظاهر آخرون بالآلاف انتصارا لحرية التعبير وتحديا للفاعل .. يفجر مرقد من المراقد المقدسة و يقتل بعض الحجاج .. يتضاعف عدد الحجاج تحديا وإثباتا للإيمان والولاء والتفاني والاستعداد للتضحية ..

الصراع الديني العقائدي كان منذ فجر التاريخ و سيستمر إلى نهاية التاريخ و استمراره منوط بعوامل متراكبة و متداخلة و معقدة منها ما يرتبط بتفسير النصوص و المواقف التاريخية و إثباتها و منها ما يرتبط بالعادات والثقافات و التقاليد و الخلفيات المعرفية و التي هي نسبية و متفاوتة بحسب المكان و الزمان .. و منها ما يرتبط بالمستوى التعليمي و الظرف التاريخي و منها ما يرتبط بالمصالح السياسية و الاجتماعية وغير ذلك .. غاية الأمر أن تعدد المذاهب و الأديان كان و سيبقى و لن نصل أبدا إلى مرحلة تصبح فيها الأديان دينا واحدا .. بل لم تكن الأديان كذلك حتى في زمن النبي محمد و النبي عيسى و موسى وغيرهم من الأنبياء .. عليهم الصلاة و السلام.

الواقع كذلك أن هنالك بونا بين النقاش الموضوعي الأكاديمي البناء للأديان والمذاهب باعتبارها من فروع العلوم الإنسانية سواء اعتبرتها علما في حد ذاتها أو ظاهرة اجتماعية تدرسها ضمن إطار علم الاجتماع أو نصوصا أدبية تدرسها في إطار الأدب أو وحيا إلهيا و تشريعا سماويا .. اعتبرها ما شئت .. لكن يبقى النقاش الموضوعي مختلفا عن التهجم السوقي والسب والإهانة التي تثير الضغائن و الأحقاد و العنف و الشغب والتي هي أقرب إلى تعصب مشجعي فرق كرة القدم منها إلى جدلية الحق والباطل .. 

الحقيقة أيضا أن الخط الفاصل بين ما هو نقاش موضوعي و نقد علمي و ما هو سب وإهانة ليس خطا دقيقا و واضحا بالمقدار الذي يعتقده البعض .. و غالبا ما يريح القانونيون أنفسهم بعبارة "يترك تقديره لقاضي محكمة الموضوع" و لكن الاجتماعيين والسياسيين و من هم في أرض الميدان لا يمكنهم أن يحسموا الجدل بهذه السهولة .. وهو جدل عضال واقعا يصعب حتى على الفلاسفة تمييز ما هو إهانة و سب و استفزاز محض و ما هو نقد موضوعي بناء ونقاش مباح ..

ولعل البعض يرى القضية مبتدئا من نتائجها .. فطالما أن حريتك في التعبير تؤدي إلى الإضرار بالآخرين و حرق السفارات والمنشآت و تكسير دور الصحافة و النشر و قتل للأبرياء الذين قد يسقطون على هامش الفوضى و الاضطراب الأمني والاجتماعي .. فمن باب أولى إغلاق الباب و تجريم إهانة الأديان و المقدسات حفاظا على السلم الأهلي و الأمن الاجتماعي .. ولكن يقول البعض في الجانب الآخر كيف سيتحقق أي تغيير اجتماعي و ثورة تغييرية وإصلاحية دون حدوث مثل هذه الآثار .. نبي الإسلام (ص) نفسه عندما جاء إلى المجتمع العربي الجاهلي اصطدم بأقدس مقدساتهم و هي أصنامهم و ديانتهم و سفهها كما ضرب بعض أساسيات نظامهم الاجتماعي ومنها التمييز القبلي والطبقي بعرض الحائط ، فجعل المسلم كفء المسلمة و لم يجعل فرقا بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى .. أليست هذه ثورة اجتماعية .. و لو قيل آنذاك بأن إهانة المقدسات محرمة لما جاز أن تهان الأصنام ولا أن يمس الفكر القرشي الجاهلي .. و لو قيل بأن دعوة النبي (ص) الإصلاحية ممنوعة لأنها أدت إلى حدوث اضطرابات اجتماعية وأمنية و فرقت الأب عن ابنه و جعلت قريشا يحارب بعضها بعضا .. لما كان للإسلام أن ينتشر وما كان للعرب أن ينتقلوا من حال إلى حال .. فإذا كانت حرية التعبير والتغيير والإصلاح مباحة في مواجهة أصنام العرب .. فلم لا تكون مباحة في مواجهة الأصنام الاجتماعية والسياسية المقدسة في عالمنا المعاصر .. أليس تجريم ذلك سدا لباب الإصلاح والثورة؟

وفي الجانب الآخر يرى البعض أن حرية التعبير مقدس في حد ذاته ، منطلقا من نظرية المعرفة (الابستمولوجيا) حيث أن قطع الإنسان و يقينه هو حجة عليه لا على غيره و حيث أن الإنسان – كل إنسان – ليس معصوما من الجهل المركب (أي أن يجهل و يجهل بأنه يجهل) و ليس معصوما من الخطأ البشري الذي لا يعيه ، كما أن تفاوت مستوى الذكاء البشري يجعل قناعاتنا متفاوتة و نسبية .. و انطلاقا من غير ذلك من بحوث الابستمولوجيا .. فإن ما يعتبر أقدس المقدسات لدى بعضنا يعتبر أحقر المحقرات لدى البعض الآخر من البشر .. فإما أن نخرس كلا الطرفين أو أن نسمح لكلا الطرفين بالتعبير .. إخراس كلا الطرفين قد يكون يسيرا في دول لا تتعدد فيها الأديان أو المذاهب كثيرا مثل دول الخليج .. و لكنه كيف يكون يسيرا في دول فيها عشرات الأديان و المذاهب و التيارات الفكرية مثل الهند و لبنان و الولايات المتحدة و بريطانيا وفرنسا.

وحتى لو سلمنا بوجوب منع التعدي على الأديان و تجريم إهانة المقدسات .. فهل سيكون ذلك تمشيا مع الشارع و النبرة الأقوى كما هو الحال في السعودية أو إيران مثلا حيث يتم النيل ممن يهين المقدسات الإسلامية و لكن تفسح الحرية الكاملة لمن يهين المقدسات الهندوسية و البوذية مثلا لسبب بسيط و هو أن البوذيين و الهندوسيين المتواجدين في هذه الدول لا يمثلون قوة تذكر على الصعيد السياسي والاجتماعي فهم وافدون لا دخل لهم بالشأن العام .. فأصبح التشريع منسجما مع المصلحة الاجتماعية دون استناد إلى أي أساس فلسفي منسجم ..

أم أن التشريع سيجرم الإساءة إلى الأديان كل الأديان .. أم الأديان السماوية فحسب .. و لكن في هذه الحالة كيف ستمارس بعض الأديان و هي تنطوي في صميم ثوابتها على إساءات لأديان أخرى .. ففي نفس القرآن ذم في آيات متعددة لبني إسرائيل واليهود و تكفير لمن يؤمن بالثالوث وتكذيب لأقاويل المسيحيين .. فهل سندعو إلى الدعوة السخيفة التي دعت إليها الولايات المتحدة بحذف بعض آيات القرآن .. أم أننا سنراجع كتب جميع الديانات و لا يخلو أي دين أو مذهب من ند وضد .. بل إن تعاليم بعض المذاهب و المدارس الفكرية إنما تقوم على مناقضة فكر أو مبدأ آخر كالوهابية التي تقوم على مناقضة ما جاء به الشيعة و المتصوفة مثلا .. فكيف سنعالج مثل هذه المسألة ..

ثم يأتي السؤال عن العقوبة المناسبة في حالة ما لو تجاوزنا جميع المعضلات السابقة و قررنا معاقبة من يهين الأديان .. فهل ستكون العقوبة مأخوذة من القانون الوضعي و حكم العقل أم من الدين .. و كيف تؤخذ من الدين و كثير من الأديان يحكم بقتل من يهين مقدساته بينما يشجع ويدعو إلى إهانة مقدسات الغير .. و – حتى لو سلمنا بأن إهانة المقدسات جريمة وخطأ – فهل ما يقوم به البعض من تكسير و إحراق و تدمير هو رد الفعل الصحيح؟

يجب أن لا ننسى بأن البقرة التي نأكل لحمها و نعدها حيوانا هي أقدس المقدسات لدى مئات الأطباء والمحامين وأساتذة الجامعات وكبار السياسيين .. و أن ما نعتبره نحن أقدس مقدساتنا يعد لا قيمة له لدى أمم أخرى بل قد يعد رمزا للتخلف والرجعية .. عندما نعالج هذه المسائل يجب أن نخرج من كهفنا و من لباس ثقافتنا و عاداتنا و أنانيتنا لننظر إليها نظرة حياد من الأعلى .. نظرة تستخلص الكليات العامة والقواعد الإنسانية المشتركة .. نظرة عقلانية و واقعية ..

أنا – كاتب هذه السطور – لا زلت أعيد النظر في هذه التساؤلات والتأملات ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكم التصوير في القانون الكويتي – بقلم علي العريان

هل يجوز الحجز على بيتك؟

العواقب القانونية للإلحاد والردة .. بقلم المحامي علي العريان