الأمراض السارية والحجر الصحي .. بين القانون المحلي والاتفاقيات الدولية - المحامي علي العريان


انتشار فايروس كورونا الجديد وإيداع بعض المواطنين والمقيمين في الحجر الصحي الإجباري جعل القانونيين في الكويت يعودون سنوات إلى الوراء ليستحضروا ويستذكروا ويعيدوا دراسة تشريع صدر قبل أكثر من خمسين سنة وهو القانون رقم (8) لسنة 1969 بالاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض السارية، وهو الأمر الذي أعاد نقاشات نادرة إلى الساحة القانونية بشأن الإشكاليات والمسائل الأخلاقية والتشريعية التي تشوب تنظيم إجراءات الحجر الصحي، بما فيها من ضبط للحريات العامة واستعانة بقوة الشرطة لإرغام من يرفض تلك الإجراءات على تنفيذها والانصياع لأوامر السلطة التنفيذية بشأنها، بما يحقق المصلحة العامة في ظروف استثنائية عصيبة، وترجع ندرة هذا النقاش القانوني إلى قلة الأوبئة في العالم حيث أن انتشارها ليس بالأمر الذي يحصل يوميا، إلا أنه يظل بحثا قانونيا بالغ الأهمية لما فيه من ارتباط بحقوق الإنسان اللصيقة بشخصيته وحرياته الأساسية، خصوصا وأننا لاحظنا في أزمة كورونا الأخيرة التفاوت الشاسع ما بين إجراءات دول تتسم سياساتها العامة بقمع الحريات وتغليب الجماعة على الفرد مثل الصين مع الدول الأخرى ذات السياسات الليبرالية، ويمكن القول بكل اطمئنان بأنه وفي مثل هذه الظروف فإن سياسات دولة مثل الصين هي بالتأكيد أكثر نجاعة من سياسات الدول الليبرالية فيما يتعلق بالسيطرة على انتشار المرض والحد منه.

الحجر الصحي في القانون الكويتي

حسم الدستور الكويتي الجدل القانوني بشأن لوائح الضبط أو ما يعرف بلوائح البوليس وهي قرارات تنظيمية تنطوي على تقييد لحريات الأفراد بهدف كفالة حفظ النظام العام، حيث نص دستور الكويت في المادة (73) منه على حق السلطة التنفيذية في إصدار تلك اللوائح وفيما يلي نصها:

"يضع الأمير بمراسيم لوائح الضبط واللوائح اللازمة لترتيب المصالح والإدارات العامة بما لا يتعارض مع القوانين".

ولا شك بأن من الأهداف المشروعة والسائغة لإصدار لوائح الضبط هي المحافظة على الصحة العامة وحمايتها، وذلك باتخاذ ما يلزم من إجراءات لمكافحة الأمراض السارية واحتوائها والحيلولة دون انتشار الأوبئة، وهو التزام على الدولة لا يقتصر أثره على إقليمها المحلي إذ أنه ذو طبيعة عابرة للحدود transboundary أيضا.

إلا أن السلطة التنفيذية في الكويت لم تضطر إلى إصدار لوائح ضبط لاحتواء الأوبئة والأمراض السارية، إذ تصدى البرلمان مبكرا بعد استقلال دولة الكويت لإصدار القانون رقم (8) لسنة 1969 بالاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض السارية، وقد وضع القانون جدولا لإدراج ما يعتبر مرضا ساريا وفوض وزير الصحة بأن يضيف إليه مرضا أو يلغي منه، ومن هنا يتبين أن الحكومة ممثلة بوزارة الصحة والداخلية وغيرها من الجهات لا تستطيع الاستفادة من هذا القانون لمكافحة مرض ما إلا بعد إضافته إلى الجدول، وهو ما يثير تساؤلا قانونيا عن مدى قيام وزير الصحة بإصدار قرار بإضافة فيروس كورونا الجديد COVID-19 ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية إلى الجدول في ظل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في الأزمة الحالية.

وينظم القانون الإبلاغ عن الأمراض السارية والأشخاص الذين تقع عليهم مسئولية وواجب الإبلاغ عنها، كما ينظم العزل الإجباري للمرضى المصابين بالأمراض السارية وكذلك المشتبه بإصابتهم، إلا أن ما يلاحظ في القانون أنه قد نص على الأماكن التي يعزل فيها المريض أو المشتبه بإصابته بالمرض حيث قصرها على المستشفيات والمصحات، بينما توسع بشأن الأماكن التي يعزل فيها المخالطون للمرضى، حيث يجوز عزلهم في أي محجر تحدده وزارة الصحة، ولا يلزم عزلهم في المستشفيات والمصحات، وقد طبقت السلطة التنفيذية هذا النص بشكل دقيق في الأزمة الحالية.



ومن المسائل المهمة التي عالجها القانون هو جواز الاستعانة بقوة الشرطة لإرغام من يقاوم إجراءات الحجر الصحي، وهو أمر صحيح وسائغ في ظل الظروف الاستثنائية التي ينظمها هذا القانون.

كما وضع القانون الأساس لما يعرف بالعزل المنزلي، وهو الأمر الذي طبقته الوزارة في الأزمة الحالية بما يعكس استفادتها المباشرة من نص القانون، فعلى الرغم من فوات أكثر من خمسين عاما على إصداره إلا أنه لا يزال ذا أهمية تشريعية حيوية تجلت في الظرف الاستثنائي الحالي.

وقد منح القانون وزير الصحة والسلطة التنفيذية الحق في اتخاذ تدابير واحتياطات أكثر قسوة في حال تفشي مرض وبائي ما مثل عزل مناطق بأكملها، ومنع التجول، وتخويل الأطباء والمعاونين الصحيين وغيرهم ممن يعينهم وزير الصحة دخول المساكن في أي وقت ودون إذن أصحاب تلك المنازل للبحث عن المرضى وعزلهم وإجراء التطعيم والتطهير وغير ذلك من الإجراءات الصحية اللازمة، وإتلاف المأكولات والمشروبات بل واتخاذ أية تدابير أو احتياطات أخرى يراها وزير الصحة ضرورية، وهي سلطة واسعة تتجاوز على حقوق الإنسان والحريات الفردية والأساسية، إلا أنها مقبولة في ظل هذا الظرف الاستثنائي الشبيه بحالة إعلان الأحكام العرفية.

ولا شك بأن من أهم ما نص عليه القانون هو العقوبات التي تترتب على مخالفة أي مادة من مواد القانون، وهي الحبس والغرامة بحسب الأحوال وعلى النحو التفصيلي الوارد في القانون، وبهذا يكون المشرع قد أنقذ السلطة التنفيذية من معضلة قانونية، وهي عدم وجود نص قانوني يرتب عقوبة على مخالفة لوائح الضبط، وعدم جواز قيام السلطة التنفيذية بإصدار قرار بتجريم فعل وتقرير عقوبة على ارتكابه، لمخالفة ذلك لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وهكذا تكون المادة (17) ذات الطبيعة الجنائية من أفضل حسنات القانون رقم (8) لسنة 1969 رغم أنها لم تسلم من النقد إذ أن العقوبة يسيرة ولا تتناسب مع جسامة وخطورة الأفعال المرتكبة.

من ناحية أخرى ومن نافلة القول أن للدولة الحق في منع أي أجنبي من دخول البلاد وإبعاد أي أجنبي مقيم فيها، وهو حق سيادي لها سواء في الظروف العادية أو الاستثنائية، ولا شك بأن مثل هذه الإجراءات لو اتخذت بناء على أسباب سائغة تتعلق بحماية الصحة العامة فإنها ستكون مقبولة قانونا.




الحجر الصحي: الاعتبارات الأخلاقية والمبادئ الدولية

وضع معهد سرقوسة الدولي للعدالة الجنائية وحقوق الإنسان ISISC ومقره إقليم سرقوسة في إيطاليا، ما يعرف بمبادئ سرقوسة وهي مبادئ غير ملزمة تبناها مجلس الأمم المتحدة الاقتصادي والاجتماعي عام 1984 وتضمنت ضوابط لضبط الحرية الفردية في حالات الطوارئ الصحية، حيث قررت بأن القيود المفروضة على حقوق الإنسان في ظل ميثاق الحقوق المدنية والسياسية يجب أن تكون متوافقة مع القانون، وقائمة على ضرورة سائغة ثابتة بالدليل، وتفرض تدريجيا وبشكل متناسب وملائم، ومن الأسباب السائغة التي قد تستند إليها الدولة لتقييد حقوق الإنسان هي مقتضيات حماية الصحة العامة، وبالتالي فإن الحجر على الأفراد لدواع صحية يجب أن يكون ضروريا، بما معناه أن يكون هدفه مشروعا وهو الحد من انتشار المرض واحتواؤه وأن يلبي حاجة عامة ملحة وأن يكون الحجر في أضيق الحدود وبمقدار الضرورة وأن لا تشوبه شبهة التمييز والتفرقة بين الأفراد دون أسس موضوعية وأن ينحصر في نطاق الولاية القضائية jurisdiction التي تتمتع بها الدولة.

إضافة إلى ذلك فإنه حين يفرض الحجر الصحي على الإفراد المصابين أو المشتبه بهم، فإن مقتضيات الأخلاقيات الناظمة لمسائل الصحة العامة تستلزم أن تكون جميع الإجراءات التي تحد من الحقوق والحريات مدعومة بالبيانات والأدلة العلمية، وأن يتم التعامل مع الجمهور بشفافية وأن توفر له كافة المعلومات، وأن يتم شرح كافة الإجراءات بشكل واضح للمحجور عليهم وللجمهور، وأن تخضع كافة الإجراءات للمراجعة المنتظمة ويعاد فيها النظر وفق المستجدات والتطورات.

كما أن من واجب الدولة الأخلاقي أن توفر بعض الضمانات للمحجور عليهم مثل أن لا يتم إيذاء الأشخاص المصابين بالعدوى سواء كان إيذاء جسديا أو معنويا وأن لا يتم تهديدهم أو ابتزازهم أو الانتقاص منهم أو إهانتهم، وأن توفر للمحجور عليهم الحاجات الأساسية مثل الطعام والشراب والملابس والأدوية، وأن يسمح لهم في حدود الممكن بأن يتواصلوا – بما لا تنتقل معه العدوى – مع أهاليهم وأحبائهم، وأن لا يتم التمييز بين الأفراد فيما يتعلق بتطبيق إجراءات الحجر الصحي وتقييد الحريات، وأن يتم تعويض المحجور عليهم بشكل عادل عن خسائرهم الاقتصادية والمادية بما في ذلك رواتبهم أو معاشاتهم أثناء فترة الحجر.

 

الحجر الصحي في المعاهدات الدولية

عقدت العديد من الدول الأوربية منذ عام 1852 مؤتمرات متعددة بهدف مكافحة الأمراض السارية وضبطها، وكان أغلبها يتعلق بمرض الكوليرا، وكثير منها لم تخرج منه تلك الدول بنتيجة تذكر، إلا أنه قد أبرمت بعض المعاهدات الدولية في نهاية المطاف بهذا الشأن منها اتفاقية البندقية لعام 1892 والتي تتعلق بمرض الكوليرا في طريق قناة السويس، واتفاقية عام 1893 بشأن مرض الكوليرا في الدول الأوربية، واتفاقية باريس لعام 1894 بشأن مرض الكوليرا في طرق مرور الحجاج، واتفاقية البندقية لعام 1897 بشأن انتشار وباء الطاعون في الشرق والمؤتمر الذي عقد على مستوى دولي لتحديد الخطوات والإجراءات التي يتوجب اتخاذها للحيلولة دون انتشار الطاعون في أوربا وانتقاله إليها، ثم تم توقيع معاهدة إضافية في باريس عام 1903.

وفي عام 1912 أبرمت اتفاقية صحية متعددة الأطراف في باريس، وكانت تتسم بالتفصيل والاستيعاب ووضعت كبديل عن كافة الاتفاقيات والمعاهدات السابقة لها، وقد وقعت عليها 40 دولة وتتكون الاتفاقية من 160 مادة، كما تبادل المصادقة عليها 16 دولة من الدول الموقعة في باريس عام 1920، ثم وقعت اتفاقية أخرى متعددة الأطراف في باريس عام 1926 كبديل عن اتفاقية عام 1912 ووقع عليها 58 دولة من مختلف دول العالم وتتكون من 172 مادة.

هذه مجرد نبذة عن الاتفاقيات الدولة التي تناولت الأمراض السارية، وثمة اتفاقيات عديدة أخرى إقليمية أبرمت في دول أمريكا اللاتينية وغيرها من الدول، وتتضمن تلك الاتفاقيات مسائل تتناول الحجر الصحي والإجراءات الوقائية الواجب اتخاذها عند انتشار الأمراض السارية والأوبئة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكم التصوير في القانون الكويتي – بقلم علي العريان

هل يجوز الحجز على بيتك؟

العواقب القانونية للإلحاد والردة .. بقلم المحامي علي العريان